هدي الرسول -صلى الله عليه وسلم- في التعامل مع الشباب
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛
فقد كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أحسن الناس خلقًا -بأبي هو وأمي-، يعامل الناس جميعًا معاملة طيبة رقيقة، وكيف لا يكون كذلك وهو الذي أرسله الله -تعالى- رحمة للعالمين، يهدي إلى الحق وإلى طريق مستقيم، ومن هذه الحقيقة يمكننا أن ندرك عناية رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بأهم مرحلة يمر بها الإنسان “مرحلة الشباب”. فكان -صلى الله عليه وسلم- يدرك طبيعة الشباب؛ فيوجههم ويرشدهم بما يتناسب مع قدراتهم، ويشجعهم ويسند إليهم من المهام ما يسمو بهممهم، ويقوي نفوسهم. والمتأمل في سيرته -صلى الله عليه وسلم- في تعامله مع الشبيبة ينتبه لأمر مهم، وهو أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- كان يرفق بالشباب، ويدرك طبيعة تفكيرهم، وفي الوقت نفسه يستخرج مواهبهم ويستفيد من طاقاتهم، ويرشدها فيما ينفعهم، وينفع أمتهم كما أنه يوجههم بصورة مباشرة، كل ذلك في تكامل رائع يكشف عن عظمة شخص النبي -صلى الله عليه وسلم-، وعظيم قدراته التربوية. فليست تربية الشباب كما يظنها البعض اليوم بأن على المربي أن يكتفي بالتوجيه غير المباشر دون تدخل أو توجيه ونصح مباشر، بل التوجيه المباشر للمستجيب من الشباب يوفر على الدعاة وقتًا طويلاً، وربما أعمارًا من انتظار التوجيه بالتلميح: فها هو يردف خلفه الفتى ابن عباس -رضي الله عنهما-، وفي هذا تربية عملية له على التواضع تجد تطبيقها في حياة ابن عباس -رضي الله عنهما-، وتواضعه، وإكباره بالعلماء كزيد بن ثابت حيث كان ينتظره على بابه في شدة الحر؛ ليطلب العلم. وللقرب فائدة نفسية يستغلها النبي -صلى الله عليه وسلم- في توصيل المعاني العظيمة المباشرة للفتى الذكي؛ فيستوعبها وينقلها لنا، ووالله فإنه أفاد الأمة بدرر تحتاج لمجلدات لشرحها، عن حنش الصنعاني عن عبد الله بن عباس أنه حدثه أنه ركب خلف رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يومًا فقال له رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: (يَا غُلاَمُ إِنِّي أُعَلِّمُكَ كَلِمَاتٍ احْفَظِ اللَّهَ يَحْفَظْكَ، احْفَظِ اللَّهَ تَجِدْهُ تُجَاهَكَ، إِذَا سَأَلْتَ فَاسْأَلِ اللَّهَ وَإِذَا اسْتَعَنْتَ فَاسْتَعِنْ بِاللَّهِ، وَاعْلَمْ أَنَّ الأُمَّةَ لَوِ اجْتَمَعَتْ عَلَى أَنْ يَنْفَعُوكَ بِشَيْءٍ لَمْ يَنْفَعُوكَ إِلاَّ بِشَيْءٍ قَدْ كَتَبَهُ اللَّهُ لَكَ، وَلَوِ اجْتَمَعُوا عَلَى أَنْ يَضُرُّوكَ بِشَيْءٍ لَمْ يَضُرُّوكَ إِلاَّ بِشَيْءٍ قَدْ كَتَبَهُ اللَّهُ عَلَيْكَ. رُفِعَتِ الأَقْلاَمُ وَجَفَّتِ الصُّحُفُ) (رواه أحمد والترمذي، وصححه الألباني). فيوجهه هنا بشكل مباشر ويلفت نظره لما سيذكره بقوله: (أُعَلِّمُكَ كَلِمَاتٍ)، ثم يشرع في التوجيه بعد التحفيز. وبمثل هذا كان موقفه -صلى الله عليه وسلم- مع معاذ بن جبل -رضي الله عنه-، فعنه أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال له: (يَا مُعَاذُ وَاللَّهِ إِنِّي لأُحِبُّكَ، وَاللَّهِ إِنِّي لأُحِبُّكَ، فَقَالَ: أُوصِيكَ يَا مُعَاذُ لاَ تَدَعَنَّ فِي دُبُرِ كُلِّ صَلاَةٍ تَقُولُ: اللَّهُمَّ أَعِنِّي عَلَى ذِكْرِكَ، وَشُكْرِكَ، وَحُسْنِ عِبَادَتِكَ) (رواه أحمد وأبو داود والنسائي، وصححه الألباني)، فسبحان الله العظيم يبدأ بتليين قلبه، ولفت نظره بقوله: (إِنِّي لأُحِبُّكَ)! وفي هذا تحفيز للعاطفة؛ فما بالك بفتى يخبره رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أنه يحبه -فداه أبي وأمي-، ثم يشرع بعدها في التوجيه الذي تستقبله نفس شغوفة بتعرف ما يهديه إليها حبيبها. دعونا نذكر مواقف أخرى -غير المذكورة آنفًا- فيها الجمع بين التوجيه ومراعاة الحاجات النفسية للشباب، فعن مالك بن الحويرث -رضي الله عنه- قال: أَتَيْنَا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَنَحْنُ شَبَبَةٌ مُتَقَارِبُونَ، فَأَقَمْنَا عِنْدَهُ عِشْرِينَ لَيْلَةً، وَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- رَحِيمًا رَقِيقًا؛ فَظَنَّ أَنَّا قَدْ اشْتَقْنَا أَهْلَنَا، فَسَأَلَنَا عَنْ مَنْ تَرَكْنَا مِنْ أَهْلِنَا؟ فَأَخْبَرْنَاهُ. فَقَالَ: (ارْجِعُوا إِلَى أَهْلِيكُمْ فَأَقِيمُوا فِيهِمْ وَعَلِّمُوهُمْ وَمُرُوهُمْ فَإِذَا حَضَرَتْ الصَّلاةُ فَلْيُؤَذِّنْ لَكُمْ أَحَدُكُمْ ثُمَّ لِيَؤُمَّكُمْ أَكْبَرُكُمْ) (متفق عليه). فانظر كيف أقام لهم تلك الدورة التوجيهية والتربوية لمدة عشرين يومًا ومن بعد ذلك يسألهم عن أحوالهم وعن أهليهم؟! وفي هذا مزيد تعرف عليهم، وفيه تقرب وإزالة حواجز، وإدراك من الداعية الحصيف لأهمية إظهار الاهتمام بالشؤون الشخصية العامة لكل من يدعوهم؛ ليحل المشاكل، أو ليتعرف على المواهب؛ وليستخرج ما لدى كل واحد منهم من معارف وعلاقات. ثم بعد ذلك يوصيهم بما يجب عليهم من الدعوة والتعليم، وتطبيق ما تعلموه منه، وهذا توجيه مباشر ومجمل، ثم يوصيهم بأهم وصية يجب الاعتناء بها، وهي: الصلاة، يصلونها كما رأوه -صلى الله عليه وسلم- يصليها، وبعدها يرشدهم إلى عدم إغفال من هم أكبر منهم حتى لا تأخذ الشباب فورة القوة، والفرح بما عندهم فيتنكرون للكبار. وانظر كيف يتفرس رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في الشاب -بعد مثل تلك الجلسات-، ويطلع على قدراته ومواهبه؛ فيسند له مهامًا كبيرة؛ فيرسل مصعبًا إلى المدينة مبلغًا عنه دين الله -تعالى-، فما أخطأت فراسته فيه -صلى الله عليه وسلم-؛ إذ فتح الله قلوب أهل المدينة وسادتها على يديه، وبحسن منطقه وكريم خلقه استطاع أن يكسب القلوب، ويمهد الطريق للدولة المسلمة، وبرأيي أن لمصعب -رضي الله عنه- منة على المسلمين جميعًا -حاشا رسول الله- بهذا العمل! وقلْ مثل ذلك في تقديره -صلى الله عليه وسلم- لمواهب زيد بن ثابت -رضي الله عنه-، وإسناده مهمة في غاية الأهمية بالنسبة لأي حاكم، وهي: أن يترجم له ويفحص ما يكتب عنه فيما بينه وبين اليهود، وكما نعلم أن مثل هذه المهمة خطيرة بسبب ما كان بين المسلمين واليهود من حساسية في ذلك الوقت، وهذا ما حدث به زيد عن نفسه؛ فعَنْ خَارِجَةَ بْنِ زَيْدٍ أَنَّ أَبَاهُ زَيْدًا أَخْبَرَهُ أَنَّهُ لَمَّا قَدِمَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- الْمَدِينَةَ، قَالَ زَيْدٌ: ذُهِبَ بِي إِلَى النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَأُعْجِبَ بِي. فَقَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ هَذَا غُلامٌ مِنْ بَنِي النَّجَّارِ مَعَهُ مِمَّا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَيْكَ بِضْعَ عَشْرَةَ سُورَةً؛ فَأَعْجَبَ ذَلِكَ النَّبِيَّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَقَالَ: (يَا زَيْدُ تَعَلَّمْ لِي كِتَابَ يَهُودَ فَإِنِّي وَاللَّهِ مَا آمَنُ يَهُودَ عَلَى كِتَابِي) قَالَ زَيْدٌ: فَتَعَلَّمْتُ كِتَابَهُمْ مَا مَرَّتْ بِي خَمْسَ عَشْرَةَ لَيْلَةً حَتَّى حَذَقْتُهُ، وَكُنْتُ أَقْرَأُ لَهُ كُتُبَهُمْ إِذَا كَتَبُوا إِلَيْهِ، وَأُجِيبُ عَنْهُ إِذَا كَتَبَ. (رواه أحمد وأبو داود والترمذي، وصححه الألباني). فالشباب بحاجة إلى تقدير وإلى إعادة اكتشاف، وإلى إعطاء فرصة تتناسب مع قدراتهم -وليس مع وسائطهم ولا مجاملة لهم- في زمن صار تجاهل المواهب، وترك تقديرها، واحتكار الفرص ديدن الكبار في أغلب المجالات -إلا من رحم الله!-. تعالَ الآن ننتقل إلى نقطة أخرى في رعاية النبي -صلى الله عليه وسلم- للشباب، وإدراكه لاختلافهم عن غيرهم. انظر كيف كان -صلى الله عليه وسلم- يراعي اشتياق الشاب لأهله، ومن ذلك أيضًا: ما ورد في البخاري بسنده عن جابر بن عبد الله الأنصاري قال: سافرت معه -صلى الله عليه وسلم- في بعض أسفاره، فلما أن أقبلنا، قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: (مَنْ أَحَبَّ أَنْ يَتَعَجَّلَ إِلَى أَهْلِهِ فَلْيُعَجِّلْ). وفي رواية أخرى: نلحظ أن النبي -صلى الله عليه وسلم- يُراعي الشباب لا سيما في أمر شهوتهم؛ ففي الحديث عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ: قَفَلْنَا مَعَ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- مِنْ غَزْوَةٍ فَتَعَجَّلْتُ عَلَى بَعِيرٍ لِي قَطُوفٍ -أي بطيء- فَلَحِقَنِي رَاكِبٌ مِنْ خَلْفِي فَنَخَسَ بَعِيرِي بِعَنَزَةٍ كَانَتْ مَعَهُ فَانْطَلَقَ بَعِيرِي كَأَجْوَدِ مَا أَنْتَ رَاءٍ مِنْ الإِبِلِ؛ فَإِذَا النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- -أي هو الراكب الذي نخس البعير وكانت بطيئة فأسرعت وهذا من معجزاته- فَقَالَ: (مَا يُعْجِلُكَ؟) قُلْتُ: كُنْتُ حَدِيثَ عَهْدٍ بِعُرُسٍ. قَالَ: (أَبِكْرًا أَمْ ثَيِّبًا؟). قُلْتُ: ثَيِّبًا. قَالَ: (فَهَلا جَارِيَةً تُلاعِبُهَا وَتُلاعِبُكَ؟) قَالَ: فَلَمَّا ذَهَبْنَا لِنَدْخُلَ، قَالَ: (أَمْهِلُوا حَتَّى تَدْخُلُوا لَيْلا أَيْ عِشَاءً لِكَيْ تَمْتَشِطَ الشَّعِثَةُ وَتَسْتَحِدَّ الْمُغِيبَةُ) (متفق عليه). فيُراعي هنا حاجات الجميع: فيسأل أولاً جابرًا عن حاله وسبب استعجاله، ثم يبدي رأيه في زواجه أنه كان يفضل له أن يتزوج بكرًا بدلاً من ثيب؛ فإن البكر تخوض تجربتها الجديدة في الزواج فتعتني بزوجها وتحبه، ويراعي -كذلك- المرأة في بيتها فيترك لها فرصة التزين لتستقبل زوجها على أكمل حالاتها! بل إنه كان -صلى الله عليه وسلم- يأذن للشباب؛ ليذهبوا إلى بيوتهم في أثناء غزوة الخندق لاسيما من كان حديث عهد بعرس فيقول أبو سعيد -رضي الله عنه- محدثًا عن شاب كان معهم في الغزوة، فكان ذلك الفتى يستأذن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بأنصاف النهار فيرجع إلى أهله، فاستأذنه يومًا فقال: (خُذْ عَلَيْكَ سِلاحَكَ فَإِنِّي أَخْشَى عَلَيْكَ قُرَيْظَةَ) (رواه مسلم). ولقد كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- شفوقًا كريمًا يسمع للشباب ويشعر بمشاكلهم، ويعاملهم معاملة كريمة حتى إن أحد الشباب غلبته شهوته، وتنازع في نفسه الطهارة والإيمان مع رجز الشهوة المحرمة والشيطان؛ فلم يجد له من مهرب إلا أن يأتي رسول الله -صلى الله وعليه وسلم- يستأذنه فيما ظنه مخرجًا شرعيًا له، فإن أذن له رسول الله -صلى الله عليه وسلم-في الزنا فقد أزاح عن نفسه هم المخالفة، وانتفى عنه الشعور بالإثم؛ فانظر كيف عالجه النبي -صلى الله عليه وسلم- بالحوار العقلي العاطفي، وبالدعاء له أيضًا من غير زجر، ولا قهر، ولا سخرية منه: عن أبي أمامة -رضي الله عنه- قال: إِنَّ فَتًى شَابًّا أَتَى النَّبِيَّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ، ائْذَنْ لِي بِالزِّنَا، فَأَقْبَلَ الْقَوْمُ عَلَيْهِ فَزَجَرُوهُ وَقَالُوا: مَهْ. مَهْ. فَقَالَ: (ادْنُهْ، فَدَنَا مِنْهُ قَرِيبًا). قَالَ: فَجَلَسَ قَالَ: (أَتُحِبُّهُ لأُمِّكَ؟). قَالَ: لا. وَاللهِ جَعَلَنِي اللهُ فِدَاءَكَ. قَالَ: (وَلا النَّاسُ يُحِبُّونَهُ لأُمَّهَاتِهِمْ). قَالَ: (أَفَتُحِبُّهُ لابْنَتِكَ؟). قَالَ: لا. وَاللهِ يَا رَسُولَ اللهِ جَعَلَنِي اللهُ فِدَاءَكَ. قَالَ: (وَلا النَّاسُ يُحِبُّونَهُ لِبَنَاتِهِمْ). قَالَ: (أَفَتُحِبُّهُ لأُخْتِكَ؟). قَالَ: لا. وَاللهِ جَعَلَنِي اللهُ فِدَاءَكَ. قَالَ: (وَلا النَّاسُ يُحِبُّونَهُ لأَخَوَاتِهِمْ). قَالَ: (أَفَتُحِبُّهُ لِعَمَّتِكَ؟). قَالَ: لا. وَاللهِ جَعَلَنِي اللهُ فِدَاءَكَ. قَالَ: (وَلا النَّاسُ يُحِبُّونَهُ لِعَمَّاتِهِمْ). قَالَ: (أَفَتُحِبُّهُ لِخَالَتِكَ؟). قَالَ: لا. وَاللهِ جَعَلَنِي اللهُ فِدَاءَكَ. قَالَ: (وَلا النَّاسُ يُحِبُّونَهُ لِخَالاتِهِمْ). قَالَ: فَوَضَعَ يَدَهُ عَلَيْهِ، وَقَالَ: (اللهُمَّ اغْفِرْ ذَنْبَهُ وَطَهِّرْ قَلْبَهُ، وَحَصِّنْ فَرْجَهُ). قَالَ: فَلَمْ يَكُنْ بَعْدُ ذَلِكَ الْفَتَى يَلْتَفِتُ إِلَى شَيْءٍ. (رواه أحمد، وصححه الألباني). فهلا تأسينا به -صلى الله عليه وسلم- في إدراكنا لاشتياق الشباب، ولغلبة الشهوة عليهم فيسرنا لهم أمور الزواج، واجتهدنا في تهيئة سبل العفة، وأكثرنا من الدعاء لهم كمثل فعله، لعلنا نفعل -إن شاء الله-. دعونا نلتقط دراري متنوعة من معاملته -صلى الله عليه وسلم- للشباب؛ تلك المعاملة التي كانت بمثابة تربية عملية لهم تساهم في التوجيه من خلال المواقف المختلفة؛ فمن تربيته -صلى الله عليه وسلم- للشباب أنه كان يحترم أحزانهم، فلا يثرب عليهم ما كان منهم في حزنهم؛ ماداموا لم يقعوا في محرم كتسخط القدر؛ بل ويسعى -صلى الله عليه وسلم- في مواساتهم في الأحزان، وفي صحيح مسلم عن جابر بن عبد الله قال: أُصِيبَ أَبِي يَوْمَ أُحُدٍ فَجَعَلْتُ أَكْشِفُ الثَّوْبَ عَنْ وَجْهِهِ وَأَبْكِي، وَجَعَلُوا يَنْهَوْنَنِي وَرَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لا يَنْهَانِي. قَالَ: وَجَعَلَتْ فَاطِمَةُ بِنْتُ عَمْرٍو تَبْكِيهِ. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: (تَبْكِيهِ أَوْ لا تَبْكِيهِ مَا زَالَتْ الْمَلائِكَةُ تُظِلُّهُ بِأَجْنِحَتِهَا حَتَّى رَفَعْتُمُوهُ). فبمثل هذا القول واساهم -صلى الله عليه وسلم-؛ ليخفف من حزنهم بينما تركهم قبل ذلك يفرغون مخزون الحزن من نفوسهم. ومن تربيته للشباب ما كان من معاملته لزوجته الشابة أم المؤمنين عائشة -رضي الله عنها-، وتخفيفه عنها لما حضرتها الحيضة في الحج؛ فشق ذلك عليها، وتوهمت أنها ستحرم من الثواب، فذكر لها ما يطيب نفسها؛ ففي الحديث عن عائشة -رضي الله عنها- قالت: خَرَجْنَا مَعَ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، وَلا نَرَى إِلا الْحَجَّ حَتَّى إِذَا كُنَّا بِسَرِفَ أَوْ قَرِيبًا مِنْهَا حِضْتُ فَدَخَلَ عَلَيَّ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَأَنَا أَبْكِي فَقَالَ: (أَنَفِسْتِ) يَعْنِي: الْحَيْضَةَ. قَالَتْ: قُلْتُ: نَعَمْ. قَالَ: (إِنَّ هَذَا شَيْءٌ كَتَبَهُ اللَّهُ عَلَى بَنَاتِ آدَمَ فَاقْضِي مَا يَقْضِي الْحَاجُّ غَيْرَ أَنْ لا تَطُوفِي بِالْبَيْتِ حَتَّى تَغْتَسِلِي) (متفق عليه). وفي تقديره لحاجة الفتاة حديثة السن إلى الترفيه: فقد نقل عنه -صلى الله عليه وسلم- أنه كان يسابقها فتسبقه ويسبقها، ويقول لها: (هَذِهِ بِتِلْكَ السَّبْقَةِ) (رواه أبو داود، وصححه الألباني)، وتقول أم المؤمنين عائشة -رضي الله عنها-: “رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يَسْتُرُنِي بِرِدَائِهِ، وَأَنَا أَنْظُرُ إِلَى الْحَبَشَةِ وَهُمْ يَلْعَبُونَ وَأَنَا جَارِيَةٌ؛ فَاقْدِرُوا قَدْرَ الْجَارِيَةِ الْعَرِبَةِ الْحَدِيثَةِ السِّنِّ” (رواه مسلم). وكان -صلى الله عليه وسلم- يعتني بالشباب ويسعى في معاونتهم وحل مشاكلهم وتزويج فقرائهم، وفي الحديث أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- انْطَلَقَ يَخْطُبُ عَلَى فَتَاهُ زَيْدِ بْنِ حَارِثَةَ، فَدَخَلَ عَلَى زَيْنَبَ بِنْتِ جَحْشٍ الأَسَدِيَّةِ فَخَطَبَهَا، فَقَالَتْ: لَسْتُ بِنَاكِحَتِهِ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: فَانْكِحِيهِ، فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أُؤَامِرُ فِي نَفْسِي فَبَيْنَمَا هُمَا يَتَحَدَّثَانِ أَنْزَلَ اللَّهُ هَذِهِ الآيَةَ عَلَى رَسُولِهِ: (وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلاَ مُؤْمِنَةٍ) إِلَى قَوْلِهِ: (ضَلاَلاً مُبِينًا) قَالَتْ: قَدْ رَضِيتَهُ لِي يَا رَسُولَ اللَّهِ مُنْكِحًا؟ قَالَ: نَعَمْ، قَالَتْ: إِذَنْ لاَ أَعْصِي رَسُولَ اللَّهِ، قَدْ أَنْكَحْتُهُ نَفْسِي. (تفسير الطبري). ومن هؤلاء جليبيب -رضي الله عنه- الذي كان فقيرًا دميمًا لا يهتم أحد بشأنه فسعى -صلى الله عليه وسلم- في تزويجه، فعن أنس -رضي الله عنه- قال: “خَطَبَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- عَلَى جُلَيْبِيبٍ امْرَأَةً مِنَ الأَنْصَارِ إِلَى أَبِيهَا، فَقَالَ: حَتَّى أَسْتَأْمِرَ أُمَّهَا، فَقَالَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: (فَنَعَمْ إِذًا). قَالَ: فَانْطَلَقَ الرَّجُلُ إِلَى امْرَأَتِهِ فَذَكَرَ ذَلِكَ لَهَا، فَقَالَتْ: لاهَا اللهُ إِذًا، مَا وَجَدَ رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- إِلا جُلَيْبِيبًا وَقَدْ مَنَعْنَاهَا مِنْ فُلانٍ وَفُلانٍ؟ قَالَ: وَالْجَارِيَةُ فِي سِتْرِهَا تَسْتَمِعُ. قَالَ: فَانْطَلَقَ الرَّجُلُ يُرِيدُ أَنْ يُخْبِرَ النَّبِيَّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بِذَلِكَ، فَقَالَتِ الْجَارِيَةُ: أَتُرِيدُونَ أَنْ تَرُدُّوا عَلَى رَسُولِ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أَمْرَهُ؟ إِنْ كَانَ قَدْ رَضِيَهُ لَكُمْ، فَأَنْكِحُوهُ… ” (رواه أحمد، وصححه الألباني). ما أعظم تلك الشابة المؤمنة في ردها على أبويها، وتنبيهها لموطن الخير في هذا؟! وتم الزواج، ولم يلبث جليبيب أن استشهد فلم يفقده أحد إلا رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، ففي الحديث عن أبي برزة -رضي الله عنه-: أنَّ النَّبِيَّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- كَانَ فِي مَغْزًى لَهُ فَأَفَاءَ اللَّهُ عَلَيْهِ فَقَالَ لأَصْحَابِهِ: (هَلْ تَفْقِدُونَ مِنْ أَحَدٍ؟). قَالُوا: نَعَمْ، فُلانًا وَفُلانًا، وَفُلانًا. ثُمَّ قَالَ: (هَلْ تَفْقِدُونَ مِنْ أَحَدٍ؟). قَالُوا: نَعَمْ فُلانًا وَفُلانًا، وَفُلانًا. ثُمَّ قَالَ: (هَلْ تَفْقِدُونَ مِنْ أَحَدٍ؟). قَالُوا: لا. قَالَ: (لَكِنِّي أَفْقِدُ جُلَيْبِيبًا فَاطْلُبُوهُ). فَطُلِبَ فِي الْقَتْلَى فَوَجَدُوهُ إِلَى جَنْبِ سَبْعَةٍ قَدْ قَتَلَهُمْ ثُمَّ قَتَلُوهُ؛ فَأَتَى النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَوَقَفَ عَلَيْهِ، فَقَالَ: (قَتَلَ سَبْعَةً ثُمَّ قَتَلُوهُ هَذَا مِنِّي وَأَنَا مِنْهُ. هَذَا مِنِّي وَأَنَا مِنْهُ) قَالَ: فَوَضَعَهُ عَلَى سَاعِدَيْهِ لَيْسَ لَهُ إِلا سَاعِدَا النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-. قَالَ: فَحُفِرَ لَهُ وَوُضِعَ فِي قَبْرِهِ. (رواه مسلم). ومن تربية النبي -صلى الله عليه وسلم-، ومن مظاهر عنايته بالشباب أنه كان يطمئنهم إلى جانب رزق الله -تعالى-، ويربيهم على محبة الله، وطلب ما عنده؛ فإن الشاب في مقتبل حياته يرى ما يستقبله من مهام مختلفة وكبيرة، فهو يرغب في الزواج ويحتاج إلى مال لحاجات مختلفة، ويحتاج إلى عمل وغير ذلك؛ فربما أصابه هم من ذلك، فهنا يبرز دور المربي الحكيم الذي يقرب الناس إلى الله -تعالى-، وينقل إليهم ما خبره من لطف الله -تعالى-. فيذكرهم هنا بمن هو أدنى منهم حالاً وأضعف قوة، ذلك الوليد الصغير الذي لا يملك من أمره شيئًا، ومع ذلك يرزقه الله -تعالى-؛ فيهيئ له أمًا حنون وأبًا عطوفا، فسبحان من يرزق الطير تغدو خماصًا، وتعود بطانًا. وكان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يدافع عن اختياره للأكفاء من الشباب، للقيام بما يعرفه من قدراتهم من مهام، فاختياره لهم بُني على أساس كفاءتهم، وقدرتهم على إنجاز ما يطلب منهم حتى لو كانت أعمارهم أقل من غيرهم؛ ففي البخاري عَنْ ابْنِ عُمَرَ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا- قَالَ: أَمَّرَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أُسَامَةَ عَلَى قَوْمٍ فَطَعَنُوا فِي إِمَارَتِهِ فَقَالَ: (إِنْ تَطْعَنُوا فِي إِمَارَتِهِ فَقَدْ طَعَنْتُمْ فِي إِمَارَةِ أَبِيهِ مِنْ قَبْلِهِ وَايْمُ اللَّهِ لَقَدْ كَانَ خَلِيقًا لِلإِمَارَةِ، وَإِنْ كَانَ أبوه لمِنْ أَحَبِّ النَّاسِ إِلَيَّ وَإِنَّ هَذَا لَمِنْ أَحَبِّ النَّاسِ إِلَيَّ بَعْدَه). وفي معاملته لمن هم تحت يده من الخدم الشباب وغيرهم قدوة.. أيما قدوة؛ فيعرف حاجتهم للعب ويتجاوز عن بعض تقصيرهم، عن أنس بن مالك خادم رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- مِنْ أَحْسَنِ النَّاسِ خُلُقًا، فَأَرْسَلَنِي يَوْمًا لِحَاجَةٍ، فَقُلْتُ: وَاللَّهِ لا أَذْهَبُ، وَفِي نَفْسِي أَنْ أَذْهَبَ لِمَا أَمَرَنِي بِهِ نَبِيُّ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَخَرَجْتُ حَتَّى أَمُرَّ عَلَى صِبْيَانٍ وَهُمْ يَلْعَبُونَ فِي السُّوقِ؛ فَإِذَا رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَدْ قَبَضَ بِقَفَايَ مِنْ وَرَائِي. قَالَ: فَنَظَرْتُ إِلَيْهِ وَهُوَ يَضْحَكُ فَقَالَ: (يَا أُنَيْسُ أَذَهَبْتَ حَيْثُ أَمَرْتُكَ). قَالَ: قُلْتُ: نَعَمْ أَنَا أَذْهَبُ يَا رَسُولَ اللَّهِ. (رواه مسلم). وقال أيضًا: “خدمت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عشر سنين ما دريت شيئا قط وافقه ولا شيئا قط خالفه رضي من الله بما كان وإن كان بعض أزواجه ليقول لو فعلت كذا وكذا يقول دعوه فإنه لا يكون إلا ما أراد الله عز وجل وما رأيت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- انتقم لنفسه من شيء إلا أن انتهكت لله حرمة فإن انتهكت لله حرمة كان أشد الناس غضبا لله وما عرض عليه أمران إلا اختار أيسرهما ما لم يكن فيه سخط لله فإن كان فيه لله سخط كان أبعد الناس منه” (رواه الطبراني في المعجم الأوسط، وقال: لم يرو هذا الحديث عن محمد بن عجلان إلا عمر بن محمد الجحشي، تفرد به عبيد الله بن محمد الجحشي). وعن مهاجر مولى أم سلمة قال: “خدمت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- سنين فلم يقل لشيء صنعت لم صنعته، ولا لشيء تركته لم تركته” (رواه الطبراني في المعجم الكبير). حملة السكينة رابط الموضوع : http://www.assakina.com/studies/7394.html#ixzz3Olc9RQcL |
بابي انت وامي يا رسول الله
|
بارك الله فيك
|
الساعة الآن 03:16 AM. |
Powered by vBulletin® Version 3.8.7
Copyright ©2000 - 2024, vBulletin Solutions, Inc. Trans by