إسألوا شركة معادن !!!!!
هذا الموضوع كُنب في العام 2008م
أهالي قرية سعودية يعانون "الصلع" و"التشوه" ووفاة الأجنة بفعل شركة تنقيب لوثت مياههم

سامي سعيدان الحربي وتظهر التقرحات على جلده
بريدة: بكر عبدالله
قبل أحد عشر عاما مضت كان أهالي قرية " البديعة" بمنطقة القصيم ينعمون في رغد العيش وصفو الحياة وزهوها. يبدؤون مع كل صباح أملا جديدا لحاضر أفضل ومستقبل مشرق يضع على وجه الأجيال الجديدة علامات السعادة والثقة، وأمارات الرضا والأمان.
لكنّ الرياح تجري بما لا تشتهي السفن.. فقد هبطت على المنطقة شركة تنقيب عن الذهب، ورغم أن الخبر يحمل على "الأمل" إلا أنه جلب للأهالي الكثير من "الألم".
تسربت مخلفات منجم "الصخيبرات" إلى المياه الجوفية، فتسممت آبار القرية، وتغير طعم المياه ولونها، وفاحت رائحتها الكريهة. على حد قول أهلها.
اختلفت الصورة.. أصبح الحديث عن هموم الحياة الأمر الغالب على مجالس الأهالي على مدار اليوم.
الهموم شملت تدهورا صحيا اغتال أنوثة بعض النساء، وحرم بعض الأجنة من الخروج إلى الحياة، وطارد آخرين، فلم يستمروا في العيش سوى أيام معدودات.
"الصلع" أصبح عاملا مشتركا بين الرجال والنساء.. كثيرون يشتكون من آلام في العيون، وحساسية في الجلد، وإصابات في الكلى وغيرها.
الخسائر تجاوزت الإنسان إلى الأموال والممتلكات، فنفقت أعداد كبيرة من الماشية، وجفت مساحات واسعة من المزارع.
في المقابل تبذل الجهات المعنية جهودا لمحاصرة تلك السموم والقضاء على آثارها.
"الوطن" زارت القرية، واستمعت إلى الكثير عن معاناة أهلها على ألسنة السكان أنفسهم.. كما تعرفت على جوانب مهمة من الجهود الرسمية لتخفيف معاناتهم.
في البداية.. يعود بنا كلاب بن عبدالمحسن الحربي رئيس مركز البديعة إلى ما قبل 11 عاما، حيث لاحظ الأهالي تغيرا كبيرا في طعم المياه ورائحتها، وصاحب ذلك أعراض صحية غريبة كاحمرار العيون، وحساسية الجلد، وتساقط الشعر، وآلام شديدة في الكلى، الأمر الذي أزعج أهل القرية.
يقول: تزامن مع ذلك حضور مندوب الشركة المنقبة عن الذهب -سويدي الجنسية - ليؤكد أن جميع مياه الآبار بالقرية "متسممة"، ويحذر من استعمالها لتلوثها "بالزئبق والزرنيخ "وهي مواد سامة تسربت للآبار من برك تجميع المخلفات الكيماوية التابعة للشركة.
يضيف أن ذلك المسؤول وعَد بتأمين المياه الصالحة للاستهلاك الآدمي والحيواني والزراعي، بعد أن أغلقت الشركة البئر المغذية للقرية، لكنه لم يف بوعوده، باستثناء منزلين يتم توصيل المياه إليهما بواسطة خزان يعبأ عبر "صهريج" متعاقد مع الشركة.
ويجزم رئيس المركز بأنه لم يتم تعويض سوى ثلاثة متضررين فقط من سكان القرية، بينما بقية السكان لم يحصلوا على أية تعويضات.
تلوث واضح يتفق الدكتور ماجد الحربي، من أهالي القرية، مع رئيس مركز البديعة في أن أول ظهور للمشكلة يعود إلى سنوات مضت، حين ظهرت أشياء مثيرة للانتباه، مثل البقع الزيتية على سطح برك المزارع، وتغير طبيعة الأرض التي تجري عليها المياه خصوصا المزارع، إضافة إلى روائح كريهة في الآبار، الأمر الذي طغى على أحاديثهم ومجالسهم إلى أن أخبرتهم الشركة بتسرب مواد كيميائية إلى آبارهم الجوفية، ومنعتهم من استخدام مياهها.
يشرح كيفية حدوث التلوث البيئي في المنطقة بقوله: من المرافق الأساسية داخل منجم الصخيبرات "معمل الإذابة بالأكوام" و"قسم تصريف المخلفات الصناعية".. وبعد عزل الخام "مرتفع التركيز" عن "منخفض التركيز" يتم نقل "منخفض التركيز" إلى معمل الإذابة بالأكوام، ليضخ في ثمانية خزانات ترشيح كبيرة، حيث يذاب الذهب الموجود فيها بمحلول كيميائي، ثم يستقطب بالكربون المنشط، وبعد ذلك يُضخ "الخليط العقيم" إلى منطقة تجميع المخلفات الصناعية.
مواد سامة
الدكتور ماجد يحذر من أن كمية الخام منخفض التركيز التي كانت تتم معالجتها في معمل الإذابة بالأكوام في الأعوام السابقة بلغت نحو 600 ألف طن سنويا، أما الآن فقد قفز هذا الرقم إلى أكثر من ذلك بكثير.
يؤكد وجود ثلاث برك كبيرة للمحاليل: الأولى للمحلول العقيم "مخلفات ونحوها" والثانية للمحلول المشبع بالذهب، والثالثة خاصة بمعادلة المحلول وتحديد أثر الملوحة في المياه، وجميع هذه المحاليل تصب في الوادي المنحدر في اتجاه القرية والذي لا يبعد عنها سوى كيلومترين أو ثلاثة، ويمتلئ بالمياه السامة بكميات كبيرة، وبجواره أعداد هائلة من الطيور النافقة بعد شربها منه، والأشجار التي ذبلت وماتت.
ويوضح أن مستشفى الملك فيصل التخصصي ومركز الأبحاث سحبا عينات من القرية في عام 1423، وأكدت النتائج وجود نسب عالية من الزرنيخ والسلينيوم والرصاص والزئبق.. كما قامت الشؤون الصحية بمنطقة القصيم بأخذ عينات وكانت أغلبها ملوثه بالمواد نفسها.
صلع.. وأمراض جلدية
المواطن سعيدان بن مقبل الحربي أحد سكان القرية المتضررين صحيا وماديا.. يشرح معاناته قائلا: بعد تلوث مياه آبار القرية بالمواد السامة أُصبت بداء الصلع، فتساقط شعر رأسي تماما، وأصاب مرض جلدي اثنتين من بناتي هما "البندري" و"صالحة" بالإضافة إلى ابني "سامي" الذي أرهقت جلده وعينيه حساسية لا يزال يشتكي منها.
يمضي سعيدان في بيان آثار المأساة على أسرته، مؤكدا أنه ليس أمامه حل لإنقاذ أولاده الثلاثة سوى شراء الأدوية اللازمة لعلاجهم، والتردد بهم على المستوصفات، ومنها مستوصفا عريفجان ساحوق، وعقلة الصقور، وكذلك مستشفى الرس العام الذي يبعد مسافات طويلة عن القرية.
ويضيف أنه بسبب المياه الملوثة نفق أكثر من 300 رأس من الماشية التي يمتلكها وتعد مصدر رزقه الوحيد، مشيرا إلى أنه يدفع 1500 ريال شهريا ثمناً لصهاريج المياه التي يحضرها لحماية صحة أسرته وحياتها.
مأساة "مريم"
أما مرزوق بن مقبل الحربي، فيؤكد أن المياه المتسممة ألحقت أضرارا صحية كبيرة بابنته "مريم" - 17 عاماً - حيث أصيبت بالصلع، وتساقط شعرها نهائياً، الأمر الذي أجبرها على استخدام "باروكة" لتتقي بها الحرج بين زميلاتها في المدرسة.
يضيف أن ابنته "مريم" أصيبت أيضا بفشل كلوي، ومرض جلدي تقاسي بسببهما في كل لحظة وهي لا تزال في عمر الزهور.. ويعود السبب الرئيسي وراء ذلك كله إلى استخدام المياه المتسممة.
ويشير إلى أن المأساة لم تتوقف عند ابنته "مريم" بل تجاوزتها إلى أختها "ملاء" - 10 أعوام - التي أدخلت مستشفى الرس العام، إضافة إلى شقيقها "فيصل" الذي دخل المستشفى نفسه، وخضع للعلاج.
إجهاض.. لرابع مرة!
مأساة من نوع أشد عاشها عوض بن شباب الحربي الذي يصف حياة زوجته بأنها تحولت إلى "جحيم" بعد تسمم المياه، فقد تساقط شعرها، وأصابها مرض جلدي، والتهابات بالمفاصل، وترهلات في الجسد.
يقول: لقد تعرضت زوجتي لعمليات "إجهاض" أربع مرات: الأولى والثانية حدثتا بالمنزل، والثالثة في مستوصف خاص بمنطقة الرياض، والرابعة والأخيرة بمستشفى الرس العام، حيث تم استئصال رحمها وبداخله جنين، لنفقد أنا وزوجتي أي أمل في الإنجاب بعد ذلك.
ويضيف أن الإصابات لحقت باثنتين من بناته، الأولى عمرها 9 سنوات، والثانية 12 سنة حيث تعانيان، منذ خمسة أعوام، من أمراض جلدية وبقع داكنة اللون.. ويقول: إن والدتي لم تسلم من هذه الكارثة، فقد أصابها مرض جلدي، وترهلات متفرقة بالجسد، ومشاكل صحية أخرى عديدة.
يشير عوض إلى أنه بعد قيام الشركة بحفر آبار "الضخ العكسي" على مساقي الآبار الزراعية تم تجفيف آبار القرية، فماتت الحياة في أربع من المزارع التي يمتلكها، ونفق أكثر من 250 رأساً من الماشية، ولم يحصل على أية تعويضات مادية أو معنوية.
تشوهات.. ووفيات
وفي كلمات لا ينقصها الأسى، يؤكد محمد بن منور الحربي أن المعاناة المهيمنة على قرية البديعة حرمته من اثنين من أولاده، الأول: الطفل"عبدالعزيز" الذي وصلت إليه السموم وهو لا يزال جنيناً في رحم أمه "نشمية"، فخرج إلى الحياة يحمل بين أضلاعه قلباً مصاباً بتشوهات خلقية، وتمت إحالته لمستشفى الولادة والأطفال ببريدة، ثم إلى مستشفى الملك فيصل التخصصي بالرياض في محاولة يائسة لإنقاذ حياته التي لم تستمر إلا شهرا واحدا.
يجزم بأن الأمر نفسه تكرر مع زوجته الثانية "شويعية" التي أنجبت طفلاً يعاني من تشوهات خلقية في قلبه، وتمت إحالته إلى مستشفى الولادة والأطفال ببريدة، ونقل منه لمستشفى الملك فيصل التخصصي بالرياض، لإجراء عملية جراحية في قلبه إلا أن أطباء المستشفى أكدوا عدم جدوى إجرائها، ليعود مرة أخرى إلى مستشفى الولادة والأطفال ببريدة الذي توفي فيه بعد فترة وجيزة.
مأساة مشابهة مرت بالمواطن صالح بن عبدالله الحربي يوضحها بقوله: لم تتوقع زوجتي وهي"حبلى" مدى الفاجعة التي كانت تنتظرها، فالحمل الذي تقاسي آلامه الحادة ليس سوى جنين مات مسموماً منذ فترة طويلة بداخل رحمها. وقد أثبتت الفحوصات الطبية أن وراء ذلك المياه المتسممة.
ويجزم بأن تلك الحادثة أحدثت فزعاً وهلعاً بأعماق زوجته من تكرار"الحمل" مرة أخرى، كما هو الحال الآن بالنسبة لجميع نساء القرية.
التزام أخلاقي
من ناحيته يبرز الدكتور منصور بن عثمان ناظر نائب رئيس التخطيط والتطوير بشركة التعدين العربية السعودية "معادن" عدة أمور مهمة تتصل بهذه القضية.. منها:
- من أهم الركائز التي تقوم عليها الثقافة التنظيمية في شركة "معادن" تحقيق التوازن بين الكسب التجاري والمسؤولية المشتركة لحماية الأفراد والبيئة والممتلكات، ولذا تنتهج سياسة بيئية صارمة للحفاظ على البيئة والمواد الطبيعية في جميع مشاريعها.
- تعد الشركة الدراسات البيئية المرجعية أثناء المراحل الأولية لعمليات الاستكشاف بمجرد التحقق من وجود خام تعديني يمكن استغلاله بشكل اقتصادي، وتجري دراسات التأثير البيئي بالتزامن مع إعداد دراسات الجدوى الاقتصادية لأي مشروع، بالإضافة إلى إعداد خطة ملائمة لإغلاق المنجم قبل البدء في عمليات الاستغلال، وصولاً إلى تطوير مستدام للموارد الطبيعية من خلال الالتزام بأخلاقيات المهنة وسلوكيات الحفاظ على البيئة في منظومة مشاريعها.
- أسست الدولة شركة معادن عام 1997م، علماً بأن التأثيرات البيئية السلبية التي حدثت في قرية البديعة منذ عام 1992م، أي قبل تأسيس الشركة بنحو خمس سنوات، خاصة أن منجم الصخيبرات القريب من القرية كانت قد أنشأته وتمتلكه شركة "بوليدين" وهي أجنبية مناصفة مع شركة "بترومين".
- بعد تأسيس شركة معادن وانتقال حصة "بترومين" إليها، قامت شركة معادن بشراء حصة الشريك الأجنبي في منجم الصخيبرات ووضعت برنامجا مكثفا لمعالجة التأثيرات البيئية التي حدثت من قبل الشركة الأجنبية انطلاقاً من غيرتها الوطنية وحرصها على المحافظة على البيئة.
- أجرت الشركة سلسلة من الدراسات الفنية للبيئة المحيطة بالمنجم لتحديد التأثيرات البيئية التي حدثت جراء عمليات التعدين التي قامت بها الشركة الأجنبية السابقة، وسبقت نشاطات شركة معادن وحجم الأضرار التي لحقت بالممتلكات ومقدار التلوث الذي تعرضت له مياه القرية.