أ.د. إبراهيم إسماعيل كتبي
قرأنا أن معالي وزير التجارة والصناعة حثّ رجال الأعمال والقطاع الخاص على ضبط تقلبات الأسعار في السوق، خاصة السلع الاستهلاكية، بعد رصد قفزات جنونية في الأسعار تقدر بأكثر من 20% إثر الإعلان عن الإعانات الحكومية، والزيادة التي حصل عليها موظفو الدولة.
كلام جميل، ومطلب مهم، لكننا اعتدنا أن كثيرًا من القائمين على السوق من تجار ومنتجين وموزعين وبائعين بالجملة والمفرق، يصمون آذانهم تجاه أية لغة شرعية أو وطنية تستهدف ترقيق قلوبهم تجاه المستهلك، وأن يرحموه من الجشع، وأن وحدها جدية الأنظمة والرقابة والعقاب بحزم هي اللغة الأقوى في حالة مستعصية كالغلاء.
نعم لا حياة لمن تنادي في قضية الأسعار، التي لم تجد بعد ضابطًا ولا رادعًا حتى داهمتنا كتسونامي يحيل الحياة الوادعة إلى جحيم، فهكذا يفعل الغلاء بالناس بزيادة الهم والغم، وأصبح المستورد والمنتج والبائع يضع وبكل جرأة ما يراه من زيادة في الأسعار -إلاّ من رحم ربي-، ولم يعد يحسبها بالقناعة، وإنما بما يقر عينه، ويملأ بطنه، ويتخم جيوبه بأرباح مضاعفة مثنى وثلاث، ولو اقتات المستهلك من خشاش الأرض.
أعتقد أن الغلاء هو أكثر ما يفقر الناس اليوم؛ بزلزال الإيجارات، وأسعار السلع والخدمات، ولعل الإحصاءات الرسمية التي تخرج علينا شهريًّا خير دليل على تصاعد تكلفة المعيشة، بل الواقع أكثر مرارة في الغلاء، وحتى قطاع الاتصالات -على سبيل المثال- لم يعد يكفيه قيمة المكالمات والإنترنت وأصبحت بعض الشركات تبتدع ألف طريقة وطريقة لتحصل على عشرات الملايين من رسائل ترويجية أقل ما يمكن وصفها بأنها “ضحك على الذقون”، ويتورط فيها الكثيرون، وبعد ذلك “يدقوا دماغهم في الجدار” عندما يفشلون في إلغاء تلك الرسائل التي تأتيهم كالسيل، وتبتلع فلوس العباد بهذا العبث بحقوق المشتركين.
إن الغلاء لم يترك شيئًا إلاّ وأصابه بسعار الزيادة، وهذا الجشع والتحايل أعتقد أنه الفساد بعينه عندما يجعل قيمة دخل المستهلك تخسر النصف في القدرة الشرائية، وهو تضخم خطير يضعف قيمة الريال، والاستقرار الاقتصادي للأسرة. فلمصلحة مَن هذا التلاعب بالأسعار فور الإعلان عن الزيادة الأخيرة التي قررتها الدولة للعاملين في قطاعاتها والمعاشات والضمانات، أمّا العاملون في القطاع الخاص، ومن يقتاتون قوتهم يوم طالع ويوم نازل، فنسأل الله أن يتولاهم برحمته.
وإذا كان تجارنا وصناعنا عليهم دور في ضبط الأسعار، فكيف نضبط جشع طابور البائعين، وأغلبهم من المقيمين، ومنهم مَن يعمل تحت التستر مقابل المعلوم الشهري للكفيل أو المتستر؟! وإذا كانت العيون مفتوحة على منتجات حيوية مهمة كالحديد والإسمنت والشعير، وتتدخل الجهات المختصة لتحقيق التوازن السعري، فهناك ألف سلعة، وخدمة أخرى تمس حياة الجميع يوميًّا، لا نجد عليها رقيب، ولا حسيب بالشكل المطلوب، ولذلك ارتفعت أسعار السلع الاستهلاكية والغذائية هكذا بكل بساطة، وحتى المطاعم وليس انتهاءً بصالونات الحلاقة، ولا مَن يغسّل السيارات، باعتبار أن الغلاء على الكل.
أقول من جديد يا تجارنا، ويا صناعنا، ويا قطاعنا الخاص ليس من مصلحة استمرار التآكل لإمكانات المستهلك وامتصاص أمواله بهذا الشكل، لأنه يفقر شرائح واسعة من المجتمع، ويزيدهم فقرًا.. فهل معقول أن تأتي زيادة 15% لشريحة من المجتمع كبدل غلاء ليقفز الغلاء نفسه بأكثر من 20% و30%، وإذا حسبنا هذا الارتفاع السعري خلال أعوام قليلة نجد بعض السلع زادت أسعارها بأكثر من النصف، تصب في النهاية في جيوب كل من يبيع سلعة أو خدمة، ممّن يتنافسون في إظهار عبقرية الجشع وحيله، ممّا يزيد الفجوة بين شرائح المجتمع.
لذلك كنا نتمنى لو أن الزيادة في الرواتب رافقها تحرك سريع لضبط الأسعار ومعاقبة المتلاعبين بها. ويبقى السؤال المحير: أليس من الأجدى أن تفعل وزارة التجارة والصناعة شيئًا لوجه الله، ثم لمصلحة المستهلكين الضحايا؟ ومتى تكتمل أعداد المراقبين في ضوء الوظائف الجديدة وتأهيلهم، ومتى ينزلون للأسواق ونشعر بوجودهم عمليًّا في رفع بلاء الغلاء، وليس مجرد بيانات وأخبار صحفية لا تفيد في شيء..؟! فالغلاء يا سادة غول خطير يفسد حياة المجتمع ويؤدي إلى فساد أوسع.. فمتى نرى طحينًا لأجهزة الرقابة وجمعية حماية المستهلك مهيض الجناح؟!.
ikutbi@kau.edu.sa
http://al-madina.com/node/299542