كلنا يعرف الدور الهام الذي تلعبه الصحافة الحرة في تنمية وتطوير المجتمعات نظاماً وفكراً وممارسة ، وما ذلك إلا لأنها منبراً لصوت الحق أيا كان صاحبه.
و المدرك لخصوصية المجتمع السعودي يعرف مدى تأثره بقادة الرأي العام وما يطرحونه من أفكار ، وما يتبنونه من رؤى ، توشك أن تكون من المسلمات.
ولعل صحيفة الرياض أحد أهم المؤثرين في الرأي العام السعودي ، بامتدادها الجغرافي ، وعمقها التاريخي ، ناهيك عن أن من يتربع على هرم التحرير فيها أحد ألمع وأقدم الأسماء الصحافية في الوطن العربي ، الأستاذ تركي السديري .
لذا كان ولا يزال المسؤول السعودي يرى في (الرياض) المرآة الأصدق ، والأكثر قرباً ، والأوضح صورة ، لعكس ملامح الحياة الاجتماعية والاقتصادية والثقافية للمجتمع السعودي ،مما يجعله يعتمدها كواحدة من أدواته لقراءة الواقع ، واستشراف المستقبل لرسم سياساته ، وبناء قراراته الإدارية .
ولأن الأستاذ تركي السديري بشخصه وفكره وقلمه لا يمثّل نفسه فقط ، ولأن لقاء ليس مكاناً لترف القلم ، وممارسة (البريستيج) ، لذا كان لزاماً إيضاح بعض الحقائق التي ربما غابت عن ذهن سعادتكم في مقالكم المعنون بـ (لنا خصوصيات خير) ، والمنشور في عمود (لقاء) يوم السبت السادس من رمضان 1429هـ.
ولمّا كان محور المقال الفقر ، وطرق التناول الإعلامي لقضاياه ، فسأعلّق على فقرات محددة من المقالة ، وأضيف بعض الأفكار حول ذات المحور .
تطرقت يا أستاذ تركي للزيارة الشهيرة لخادم الحرمين الشريفين إبان ولايته للعهد ثم قلت (إن إعلان الاعتراف بوجود الفقر هو أول وسيلة للشروع في مواجهته) .
كلنا يعرف أن الملك عبدالله أحد القلائل الذين لا يسعون للدعاية الإعلامية ، وأتذكر جيداً أنه في تلك الزيارة أقسم أغلظ الأيمان أنه لم يُقدم على ما قام به إلا من أجل أن يرى الواقع كما هو ، وأنه ما كان يرغب أن يعرف بأمر الزيارة أي وسيلة إعلامية .
وهذا دليل صدق نواياه وسعيه لمعالجة أكبر معضلة كانت ولا تزال تشوه الوجه الجميل لواحدة من أكبر الدول النفطية في العالم .
كانت هذه الزيارة أولى المواجهات المعلنة مع الفقر ، وتمخضت عن عديد من القرارات كان أبرزها إنشاء صندوق معالجة الفقر .
كان حرياً بك يا أستاذ تركي أن تتطرق لما آلت إليه هذه القرارات ، وتتسآءل عن مصير هذا الصندوق ، بعد مرور ثلاث سنوات كفيلة بإنجاز مشاريع أضخم وأكثر تعقيداً ، في ظل أوضاع اقتصادية ازدادت صعوبة وتشابكاً ، بعد موجة الغلاء الناتج عن التضخم الذي يزداد يوماً بعد يوم ، ويتجاهله مسؤولي مؤسسة النقد بتطمينات بعيدة عن الواقع ، تثبت مع مرور الأيام عدم صدقيتها !
قلت يا أستاذ تركي :
(أمريكا فيها جياع.. أيضاً بريطانيا.. فالمهم ليس وجود الفقر وإنما وجود خطط مواجهته..)
كم تمنيت عليك يا أستاذ تركي تعريف الفقر في المفهوم الأمريكي والبريطاني ومقارنته بـ فقرنا ، هناك فرق كبير أعتقد أنك تدركه ، والحقيقة أن آذاننا سئمت ترداد مقولة أن الفقر ظاهرة عالمية ، هذه المقولة التي أضحت شمّاعة نعلّق عليها أخطائنا وسوء تخطيطنا وإدارتنا ، هذه الأخطاء هي التي جعلت المواطن الذي استشهدت به هو من يكشف عجز المسؤول الذي كان يفترض أنه هو من يكتشف عدم حاجة المواطن لمعونة الضمان الاجتماعي .
ترى كم من مواطن (وغير مواطن) لا يزالون ينتفعون من أخطاء المسؤولين وقصور أنظمة الرقابة والمحاسبة ؟!
وهل سننتظر إلى أن تصحو ضمائرهم دفعة واحدة ، أم سنحتفي (بتوبتهم) فرادى على طريقة المواطن سالف الذكر ؟!
ثم إنني أعجب لكثير من المسؤولين وقادة الرأي العام لدينا ، حينما يبررون لخطأ ما ، فيستشهدون بالغرب ؟!
ألم نأخذ من الغرب إلا أخطاءهم ، وسلبياتهم ، وكأن وجودها لدينا شرف ، ووجودها لديهم مبرراً لنرتكب مزيداً منها ، طالما أن التبرير يأتي بهذه الطريقة ؟!
ليتنا نكتفي بأخذ مالديهم من إيجابيات ، وإلا فلا أقل من جميل بمعية كل قبيح نأخذه منهم !
كذلك لمت يا استاذ تركي على بعض وسائل الإعلام مبالغتها في تناولها لحوادث الجنوح الفردية وتضخيمها بشكل يوحي للمتلقي بأنها سمة اجتماعية.
وهنا أخالفك الرأي أستاذي ، دع الإعلام يمارس الطرح بالشكل الذي يريد والمتلقي هو من سيتولى مهمة الفرز ، أنت تتحدث يا أستاذي عن مجتمع أكثر من ثلثيه من الشبّان الذين يتلقون المعلومة من مصادر شتى ، ولم تعد وسيلة الإعلام المحلية هو مصدر المعلومة الوحيد كما في السابق ، والوصاية لم تعد مجدية في زمن الإنترنت والسماء المفتوحة !
ثم أن الأزقة ، والشوارع الخلفية ، ومدن الصفيح ، حبلى بحكايات شبيهة بالخيال ، ربما لو ألقيت عليها نظرة ولو خاطفة لقلت إنهم لا يبالغون !
معظم صحفنا يا أستاذ تركي تترفع عن طرح حوادث جنوح كثر كي لا توصف بالصحف الشعبية ، أو صحف الحوادث ، وكم أتمنى لو كانت لدينا صحف لا يعنيها البريستيج الزائف ، كي تتناول ماتتعفف عنه صحفنا من قضايا وحوادث لم تعد فردية ، أو حتى صحفاً تعتمد منهج الصحافة الصفراء في المكاشفة والمصارحة ، فنحن نحتاجها فعلاً ، لأننا لم نجن شيئاً من صحافة (البريستيج) !
أما ثورة الجياع التي تهكمت على من ينادي بالتحذير منها ، فهي لن تأتي بإذن الله ، لكننا لسنا بمنأى عنها ، إن لم نتصد لتنامي معدّلات التضخم ، والبطالة ، وإرتفاع الأسعار ، ولم نسارع في ردم الهوة السحيقة التي نتجت عن زلزال فبراير 2006 الشهير ، فانهيار الأسهم الذي طال شريحة كبيرة من المجتمع السعودي كان زلزالاً اقتصادياً واجتماعياً تبعته العديد من الهزات الارتدادية لازالت تتوالى حتى الآن ، انقسم على إثرها المجتمع إلى قسمين ثالثهما على وشك التلاشي ، قسم يقبع تحت خطالفقر أو قريباً منه ، وقسم يحلّق فوق خط الثراء الفاحش!
أما القسم الثالث ، أي الطبقةالوسطى فهي تنحاز للقسم الثاني بمعايير الفقراء ، لكن البنوك وشركات التقسيط تنشب أظفارها بما بقي منها لتمص دمها وتسقطها .. ، وهي في طريقها للتلاشي إن لم تكن تلاشت بالفعل !
والحديث ذو شجون وشجون ، طالما الفقر هو محوره...
كم تمنيت عليك يا أستاذ تركي لو تناولت في مقالك ، في ذات السياق غياب الدور الاجتماعي لرجال الأعمال السعوديين ، والبنوك والشركات الكبرى السعودية ودوره في تنامي ظاهرة الفقر.
فكم هو مخيف أن تدخل المملكة العربية السعودية منظمة التجارة الدولية ، وتصبح لاعباً رئيساً في اقتصاد يعتمد التخصيص ، بقطاع يعتمد أسلوب عمل لا يماثله فيه أي من نظرائه في العالم.
وطالما أنك استشهدت يا أستاذ تركي بأمريكا وبريطانيا في جانب مظلم ، فسأستشهد بهما في جانب مشرق...
في أمريكا وبريطانيا ، رجال الأعمال وكبرى الشركات تسهم في خدمة مجتمعها بمبادرات منها..خلاف الضرائب التي تفرضها الدولة لتوظفها في برامج تسهم في خدمة المجتمع ، وتقدّم المنح لأبناء الفقراء ليكملوا تعليمهم ، وبعض رجال الأعمال يتبرع بكل أو بعض ثروته للجمعيات الخيرية !
كل ذلك وأكثر رغم أن ربحية هذه الشركات متدنية ، ونموها يسير بمعدلات بطيئة ، فما هو حال رجال الأعمال لدينا وشركاتهم تحقق نمواً ليس له نظير في العالم ، ولا تفرض عليهم ضرائب من أي نوع ، وبعضهم لا يؤدون حق الله في أموالهم من زكاة مفروضة !
ومع ذلك نجدهم أكثر رجال الأعمال في العالم سلبية تجاه وطنهم وأهلهم الذين كبّروهم وقامت هذه الشركات على أكتافهم وجيوبهم .
ناصر بن محمد المرشدي
إعلامي سعودي
الرياض
*امتنعت صحيفة الرياض عن نشر هذا الرد على مقال للزميل تركي السديري
منقول من صحيفة الــوئـــام